الخميس، 27 ديسمبر 2018

هل علينا أن نسأل "المجرّب" أم "الحكيم"؟

همام دوبا | نعود اليوم لنتناول مثلاً شعبياً كموضوعٍ لمقالٍ جديد، لاعتقادي بأنَّ الأمثال تعبّر عن التراكم الثقافيّ الشعبي للمجتمعات، حيث لا تخلو أيّةُ جلسةٍ عربيةٍ من مثلٍ واحدٍ على الأقل يُطرَح كعلاجٍ لمشكلةٍ ما.
عودةٌ إلى العنوان، لا بدّ أنَّ التجربة تبني معرفةً، لكنّها معرفةٌ غير كاملة، فلا يمكننا من خلال التجربة فقط أن نحيط بكلّ تفاصيل الأمر، ولن نختبر فيها كيف تجري الأمور في الباطن، فعلى سبيل المثال يمكن لـ "مجرّب" أن يصف لك البرتقال كعلاج للـ "كريب"، لكنّه لا يستطيع شرح آلية تأثير هذه الفاكهة على جسدك، بيد أن الأمر لربما لا يكون "كريباً" بل مرضاً أخر، فللحكيم رؤيةٌ أخرى، أكثر إحاطة بخصوصية مرضك، وأشدُّ دقّة في إعطاء العلاج.
لم يقتصر تطبيق المثل السّابق على الأمراض والأدوية، بل شدّ رحاله إلى كلّ أقصاع مفاهيمنا ومشاكلنا، فبات المُجرِّب هو الخبير الأكيد لكلّ مشاكلنا، اجتماعيّةً كانت أو فكريّةً أو ثقافيّةً، حتّى أنَّ الحكيم أُحيل إلى التقاعد ولم يعد له أيّ عمل.
 

لا بدّ عند نقل أيّ تجربة والإرشاد بها أن ندرس البعد الشخصيّ، فلكل إنسانٍ مسارٌ خاصّ، وشخصيةٌ مختلفة، ولكلّ قضية مهما تشابهت مع الأخرى بُعدٌ خاصّ أيضاً، الغريب في المثل أعلاه، تناقضه مع باقي الموروثات الشعبية، كـ " إعطي خبزك للخبّاز ولو أكل نصو"، فيأتي هذا المثل متناقضاً مع ما سبقه، ومؤكّداً أنّه عليك أن تذهب إلى مختصٍّ مهما كانت التكلفة، فهو الّذي سيفتي لك بالأمر على أفضل وجه.

إنّ المشكلة ليست بنقل التجارب، ولا بالتجارب نفسها، وإنّما بِعدِّها مصدراً أكيداً للمعلومة، وعَدِّ ناقل التجربة أو "المُجرِّب" مصدراً موثوقاً لها، وعلى سبيل المثال لا الحصر, نحن اليوم في عالم أصبحت التجربة تُنقلُ بكبسة زر، الإعلام يصدّر التجربة كما يشتهي مُموّله، ووسائل التواصل الاجتماعي تنقل معلومات متضادّة حول نفس التجربة، فمن منّا يعرف حقيقة ما يجري في فرنسا من احتجاجات اليوم؟! أو في انتفاضة السودان الأخيرة؟ إنّ كلّ الصور التي تصلنا عنها صورٌ لا يمكن الاعتداد بها كمصدرٍ حقيقيٍّ وموثوق، خاصّة لنا نحن في سوريا بعد ما شهدناه من تزوير خلال السنين السّبعة الفائتة، والتزوير الذي أقنع كلّ من هو خارج سوريا، وحتّى من هو بداخلها أحياناً، بصورةٍ مختلفةٍ كليّاً عن الحقيقة، فكان أحدنا يتابع أخبار الحي المجاور له عبر القنوات الفضائية، ليكتشف في اليوم التالي حقيقة ما حصل فعلاً!، وهذا ما أكده صحفيون غربيون كثر خرجوا عن صمتهم وعبّروا أن حقيقة الميدان تختلف كثيراً عمّا يتم تداوله في وسائل الإعلام, هذا في ما يخص اليوم والغد, إلا أنّ الماضي ايضاً وصلنا بتجاربه, فاعتنقناها دون أيّ درايةٍ بكامل تفاصيله!.
 

فبين "الحكيم والمجرّب والخبّاز" يقف العربيّ دون أدنى معرفةٍ بأساليبِ التحقّق والبحثِ عن حقيقة المعلومة ومدى صدق مصدرها من عدمه، فما زال منشورٌ على "فيسبوك" يحرّك شارعاً، وتقريرٌ تلفزيوني يكظم غيظ الناس أو يؤجّجه، دون محاولةٍ جديّةٍ من الناس لمعرفة الحقيقة.

  

راديو ماراتوس

من فقرة "سكانر"، وهي تدوينة تنشر كل يوم خميس عند السابعة مساءً على موقع وصفحة راديو ماراتوس.

هناك تعليق واحد:

في الذكرى الثانية لولادة الصوت: نصمت.. حتّى إشعارٍ آخر!

وكما بدأنا بثّنا في مثل هذا اليوم قبل عامين مع هذا النشيد الذي به نعتزّ ونفتخر، نغلق به عند منتصف ليل اليوم، حيث سيتوقّف بثّنا الإذاعي وم...