الخميس، 24 يناير 2019

عن الوجدان الجماعي في زمن "الهواتف الذكيّة"..


همام دوبا |
 يمكننا القول بأنّ الاجتماع اليوم في بلادنا أمرٌ مفقود، الاجتماع بمعناه الماديّ، وما يليه من تجانساتٍ فكريّةٍ ومن ثمّ اجتماعية، أو توافقاتٍ على أقلّ تقدير، ومن هذه التجانسات والتوافقات ينشأ ما يمكن تسميته بـ "الوجدان الجماعي" لشعبٍ ما، ذلك الذي يعمل على توليده أمورٌ عدّة، في مقدّمتها السينما والمسرح اللذان يعملان على إنشاء الشكل الماديّ لهذا الوجدان، فيما تقوم الرواية بصقل بنيته المعنوية بوصفها النص الذي يبنى عليه ما سبق، فدُورُ العرض _مسرحاً كانت أم سينما_ تبني وجداناً واحداً للحضور، كتلةٌ جماهيريةٌ تتفاعل بكلّيتها مع ذات الخشبة، وتُبصر ذات النور المنبثق من جهازِ الإسقاط، والخشبة وجهاز الإسقاط يتفاعلان بدورهما مع أرواح الحضور وعقولهم.
وإذا ما اقتربنا أكثر وضيّقنا منظورنا حتّى نرى به الأفراد كأجزاءٍ مستقلّة تتبع إلى هذا "الكل" المتمثّل بالجماعة، فإن هؤلاء الأفراد يسقطون كلّ قيمةٍ شعوريّةٍ وفكريّة، وكلّ مشهد يشاهدونه، على حياتهم وأفكارهم وعلى مواقفٍ قد مرّوا بها سابقاً، أو ربّما سيمرّون بها، وهذا ما يمكن أن نتعبره نقاشاً يدور بين الحضورِ بصمت.
ولعلّ أهمّية المسرح والسينما ليست بما يُعرَض، بل بهذا الاجتماع الذي تولّده، وإذا ما تكلّمنا عن الرواية فهي لا تقلّ أهميةً عن "أبو الفنون" ولا عن "الفن السابع" بدورها في إحداث هذا الاجتماع حول أمرٍ أو قضيّةٍ ما، وبرغم أنّ الأفراد يبحرون بها في ظروفٍ مكانيّةٍ منفصلة ومختلفة، إلّا أنها تتمتّع بالقدرةِ على جعلِ القرّاء مجتمعين في وجدانهم، وتصوّرات المشاهد المكتوبة روائياً، وما يتبعها من محاولاتٍ متباينة لاستنباط المعاني وإدراك الصور، وقياساً على ذلك يقول الفنان فايز قزق :" عندما يتحلّق حول الرواية 20 ألف إنسان من مدينةٍ ما، ويقرأونها يُصبِح للألسُن تقارباتٍ تُآخي الألسن نفسها ويُصبح السياق اليومي سياقاُ موحّداً إلى حدٍّ ما، قادراً على فهم بعضه البعض"، وبذلك تجعل الرواية منهم كياناً متّصلاً فكرياً _رغم الفارق المكانيّ_ في البحث عن المعنى، وفي الإحساس بالقيم الشعورية التي تؤلّفها الرواية.
فأين نحن اليوم من هذا الاجتماع، وما هو موقعنا من هذه التألفات والتقاربات التي ينتج عن مخاضها وجدانٌ جماعي يمثّل روح المجتمع!؟
فلا رواية عربية اليوم، لا مسرح ولا سينما، وبعد تسعة عشر سنة من وداعنا لقرنٍ زاخمٍ بالأعمال والمحاولات الجادّة، أصبحنا اليوم نكتب كلّ شيء إلّا الرواية، ونمثّل في كل مكان ما عدا خشبة المسرح، وبرغم وجود بعض المحاولات المسرحية والسنيمائية والروائية، لكننا لا نستطيع إلّا أن نعدّها استثناءً عن قاعدة صدأت وجعلت عقولنا وأفئدتنا صدأة معها.
فبعد أن سيطر التلفزيون علينا، ذلك الصندوق الذي أسرنا في داخله، أتت ما تُعرف بالـ "الأجهزة الذكيّة" والتي سيطرت على عقولنا عبر تلك الإنشات الصغيرة التي تضيء على مسافة عشرين سانتيمتر من أعيننا، وبعد أن كانت دور العرض تفتح آفاقاً واسعة للرؤية والتفكّر، أصبحت الهواتف تحتلّ معظم وقتنا يومياً، فتشغلنا عن كل ما يحيطنا، وتمنع اجتماع العائلة حول مائدة الطعام، فما هي فاعلةٌ بأهل مدينةٍ كاملة؟

 
راديو ماراتوسمن فقرة "سكانر"، وهي تدوينة تُنشر كل خميس على موقع وصفحة راديو ماراتوس.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في الذكرى الثانية لولادة الصوت: نصمت.. حتّى إشعارٍ آخر!

وكما بدأنا بثّنا في مثل هذا اليوم قبل عامين مع هذا النشيد الذي به نعتزّ ونفتخر، نغلق به عند منتصف ليل اليوم، حيث سيتوقّف بثّنا الإذاعي وم...